بسم الله الرحمن الرحيم
رواية السجين يهرب
هذه رواية من أفضل الروايات الإسلامية للكاتب خالد الجبرين وهي رائعة أسلوبا و مضمونا نقلتها لكم بعد تنقيحها ، و هي في أربعة عشر فصلا ،
الفصل الأول:
"الممرة" قريةصغيرة ذات بيوت صغيرة متلاصقة وسخة00تقع في قعر العراق في الشمال بعيداً عن بغداد مسيرة يومين للماشي على قدميه0في أحد دروب الممرة الضيقة يسمع وقع أقدام متعثرة00غير منتظمة00الوقت ليلاً00وبسبب من ضوء القمر الشحيح انطرح على الأرض ظلال شخص يمشي مترنحاً00وعندما لفه الدرب إلى باحة مغلقة على جنباتها عدة أبواب مغلقة00 تبينت هيئته واضحة تحت شحوب القمر00شاب في السابعة والعشرين00بثياب بالية00وطاقية فقدت لونها الأصلي00متوسط القامة 00متين العضلات00حزين الملامح،بعينين نصف مغمضتين00كان سكراناً إلى درجة متوسطة00ثقيل الخطى00يغطي زوايا فمه المليح زبد من اللعاب0وقف الشاب أمام أحد الأبواب المغلقة وطرقه00كان البيت يدل على مستوى ساكينه00بيت صغيرلصياد فقير00بعد فترة فتح الباب وأطلًت منه وجه امرأة مُسنًة،تمسك خمارها على وجهها،فلما عرفت في الشاب ولدها الوحيد تركت خمارها يسقط عن وجهها وهتفت في حزن وألم:
- أنت سكران يا ولدي؟!
أجابها الشاب بصبر نافذ:
- أريد أن أنام00وقبل أن يدفع الباب للدخول أغلقته بسرعة فصاح الشاب:
- أفتحي ياأماه00أنا لا أقوى على الوقوف!
ومن وراء الباب أجابته:
- سيرتك السيئة يا ولدي سترديك00 وسيطردك أبوك من البيت0
- افتحي الباب،ولن يعلم أبي إنه نائم0
- لن أدعك تدخل حتى أخبره0
- لا تخبريه بشيء00إن علم بحالي فسيطردني إلى الأبد00 لقد هددني بذلك0
- لقد أقسم عليً بأن أوقظه حال وصولك0
- الويل لي!
كان يتكلم بلسان ثقيل00 وزال عنه شيء من غبش السكر عندما سمع وقع أقدام والده يتجه نحو الباب0 وتوقع حدوث أسوأ الأشياء0 فظل واقفاً مستسلماً لما سيحدث00إنه يخشى هذا الكهل فقد هدده مراراً0وفتح الباب لتخرج منه عصا غليظة، وتهوي على رأسه فيسقط مرعوبا متألماَ00وجلس على الأرض يتحسس رأسه00ورفع عينيه فصدم بمرأى والده الذي خلت ملامحه من أي بشائر التسامح00كانت لحيته البيضاء المستطيلة ترتجف بارتجاف فكه الأسفل وفي عينيه نظرات الغضب والحسرة ونهره الشيخ بغلظة:
- لماذا جئت؟أجاب وهو يتحسس الكرة الصغيرة التي نبتت في رأسه:
- أريد أن أنام0
- ليس عندي مكان لك بعد اليوم!
فسأل الشاب في لهفة:
- وأين أذهب؟!
- إلى أي أرض تعجبك0
- اعف عني يا أبتاه وأعدك أني00
- اصمت00 لقد سئمت وعودك الكاذبة00عليك الآن أن تتدبر شئونك0وقال الشاب بخجل:
- دعني أنام هذه الليلة فقط!
وقالت أم الشاب التي كانت تقف خلف زوجها:
- دعه ينام هذه الليلة يا عبدالمغيث ويرحل في الصباح؟
- رد الكهل بحزم:
- لن يتعدى هذه العتبة00اعطني صرة ثيابه0وبعين دامعة ناولته المرأة صرة كانت في يدها فأخذها وقذف بها في وجه ولده الوحيد وهتف محنقاً:
- هذه ثيابك يا غياث لست ولدي ولست والداً لك00!
وتناول الشاب الصرة وقام من على الأرض،وهم بأن يلقي بنفسه على والده ويقبل قدميه رجاء عفوه،لكن ما فعله الشيخ قطع عليه آماله، فقد قبض ثوبه من جهة صدره وهزًه بعنف وكأنه طفل وصاح في وجهه:
- اسمع00 إذا رأيتك في هذا المكان مرة أخرى00سأهشم رأسك00 ثم طرحه على الأرض ودخل مغلقاً الباب وراءه0لفترة جمد الشاب في مكانه ثم تحرك بتراخ00لم يدر إلى أين سيذهب، فهام على وجهه مدة حتى صار في ظاهر القرية00 ثم وجد نفسه يسير جنوباً بمحاذاة نهر دجلة متجهاً إلى بغداد00 كان يلزمه مسيرة يومين ليصل إلى عاصمة الخلافة00 لكنه مشى متباطئاً بغير حرص على الوصول00كان يجر رجليه جراً!
الفصل الثاني
العذاب00 الضيق000الأماني العراض التي افترسها الفشل00كل ذلك انحرف بمسيرته00وأهلك القناعة بداخله،وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية00بطالة طاغية00فقرٌ مقدع00أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ00حطمته الأيام،ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال،فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة00لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ،لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً00 أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء،ثم عمل حمَّالاً00ثم مزارعاً00ثم حرفياً0لكنه ولد بنفس طموحه00إلى المجد و الجاه00 إلى الصيت الذائع،وتراكم في نفسه اعتقاد راسخ بأن مشكلته و سعادته في المال00 فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل مامعه من نقود00 جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة00ثم عمد إلى موهبته الأصلية00الشعر00 استعار جبة وعمامة عريضة00 ودخل على الولاة وكبار القادة،ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسرمن جديد00 وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة و أقداح النبيذ0ومع الأيام القاسية انحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ000فصار لصاً00 يسطو على المنازل00 وشُكي إلى والده،فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه0وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد،وكادت يده أن تقطع ذات مرة! وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً0بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم استلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق0نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقظته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين،وغمس وجهه في مياه دجلة،وأروى عطشه ، ثم استلقى من جديد تحت ظل شجرة،وعاود النوم حتى انحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل،ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام و واصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير0وصل إلى إحدى القرى الواقعة على النهر، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئاً،فمنظره الكئيب، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها0ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض0وصادف أحد الصيادين راكباَحماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا00تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل أن ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه00وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى0عندما حل المساء توقف على الشاطئ00 كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان00 وأشعل نارا و شوى بعض ما في السلة من السمك00 وجلس يأكل بشهية مفتوحةحتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا0كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه آثر أن يكمل مسيرته في الصباح0لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته00 الأولى وهو صبي في صحبة والده00 والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة0 كم هالته المدينة الكبيرة العامرة00 التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء00في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الآمنة،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور00 وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى اجتذب سمعه أنين خافت!! تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه00لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث00 كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب00 أرخى سمعه مرة ثالثة ليجدالصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه0 فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس0كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد00 فثيابه ممزقة00 ورأسه حاسر مشعث الشعر 00 وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى استفاق0وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر0
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً0ولم يعلق الرجل بغير الأنين0 فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى00 كأنك00ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يا رجل 00أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن0وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بماتريد00 لكن أرفعني قليلاً عن الأرض0واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الجرح إلى جهة من البر:
-هناك00 ستجد الجمل هناك00 لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره0وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله00 تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله00 لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض00 يجتر ما أكله في النهار00 هدر الجمل عندما رآه، فاقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الإعياء فنام0قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فارتفع اللهب متراقصاً00مضيئاً المكان00 تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر00كان دقيق الملامح00مهزولاً00 على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور00 وعندما تذكره هزًّ رأسه!
و بهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها و وضعها في جيبه00 و راعه أن جسد الرجل كان يفوربالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم00 وقد وجدت جملك0
-إذاً انظر هناك00 ستجد قارباً كبيراً00 انزل به أحمال الجمل00ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور00هيا بسرعة0
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا00لابد أن نكون هناك حالاً0
-تبدو مستعجلاً00 هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد00هيا بسرعة00بسهولة وجد غياث القارب 00 ووجده قديماً متهالكاً00 فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين0وعمد إلى أحمال الجمل00 فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل00 وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط0حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه00 وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية00 وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية0ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام0 فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب! كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم00 وإلا لما تركتك تبحر به00 ربماحطمه الجمل! لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بانفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده0ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين0فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف00 أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه و أنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله00 وماذا أصنع بك؟ كل ما أستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسحل التجديف0وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر0 وتناول احد الخرجين بسرعة وقذف به إلى الماء 0 ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا 000إنه الذهب !!؟كانت صيحته منكرة00 جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايت هو ،خاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به يا أحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب00 لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو00 في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهرالداكنة المخيفة0 ثم حانت منه التفاتة إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً00 كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه0ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله00وهاأنذا أخسر نصفه00 عذبك الله يا عدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت00وكان النخيل قليلاً00متقارباً و خاوياً00 وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل 0وضع غياث الرجل على الأرض0 لكنه صاح:
-بالداخل00 بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً00لكن الحمى كانت تفترس الرجل00فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهويئن00 ويهتف لاهثاً:
-نار 00أوقد ناراً00 الجليد يكاد يقتلني00 أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي00 وأشخاص أخرين00حنظلة00بكرة بنمرة00 زليط0وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضاءت أركان الحجرة0 ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه00 ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص...!
الفصل الثالث ..
الذهب بغيته00شرط سعادته00ابتسمت له الدنيا فجأة00ارتمت الثروة والمجد تحت قدميه بسهولة00هذا المال غنيمة باردة سيناله بلا مخاطرات ولامتاعب00فالسرقة مهنته00 والرجل الجريح عاجز لايكاد يقوى على الحراك، وليس هناك رقيب ولا شرط00فليأخذ هذا الخرج الممتلئ وليرجع لاستخراج الثاني بعد حين00 ليقتنص الفرصة ولينهي شقائه إلى الأبد00 وسيجد بعدها مئة جواب لمن يسأله عن ثرائه المفاجئ!وأحس بتصاعد أنفاسه وتلفت00ثم تفكر ملياً وأعادالمال إلى مكانه00 ووجد نفسه متردداً في سلب الرجل، مع أنه سلبه قبل قليل بعض الدريهمات!
حرك النار فتصاعد لهبها00 تأمل هذه الثروة التي تربض عند قدميه كالكلب الوفي00 ماذا لو أخذها ولاذ بالفرار وترك الرجل لمصيره يموت بهدوء00 لقمة سائغة00فهو يسطو على المنازل ويقتحم الأخطار من أجل أشياء قليلة تضيع منه في صباح اليوم الذي يليه00 والآن وجد ما يكفيه مدى عمره كله،فلماذا يترك هذه السعادة القابعة في حقيبة هذا الجريح العاجز تضيع منه؟00إنه في الغالب سيموت، فقد تلقى في جوفه طعنةنافذة00 وهكذا لن يثقل كاهله بقتله00 فلا مجال للتقاعس والوجل؟!
وتناول الخرجا لثقيل مرة ثانية00 لكن شكوكه عادت فأرجع الخرج إلى مكانه0
لقد علمته التجارب أن يكون حذراً ويفكر في كل شيء قبل أن يقدم على عمل جريء كهذا0 وقد تحصلت عنده قناعة تامة أن لهذا الذهب الوافر طلاباً غيره،وأنهم لابد أن يتتبعوه أينما ذهب00 فما زالت تطن في أذنه كلمات الرجل وهو يهذي ويقول: إنه طعن من أجل الذهب ثم خسر نصفه0 وتلك الأسماء التي كان يرددها00حنظلة00زليط00عدي00 ولاشك أن الرجل لص مثله00 فقد رآه يوماً أو شخصاً يشبهه! والأشخاص الذين ذكرهم هم أعوانه أو أعداؤه0 ولهذا قرر أن يحتال على الرجل ليعرف قصته، ويكون ذلك أدعى للأمن وأخذ الحيطة0 وخطرت له فكرة00
أخذ الخرج محاذراً أن تحدث محتوياته صوتاً وحفر حفرةً صغيرةً في جهة من الحجرة، ودفن الخرج فيها و غطاه بطبقة رقيقة من التراب،ووضع صرة ثيابه فوقها وسوى الموضع ، ثم قام إلى الخارج ورفع رأسه وملأ رئتيه من الهواء الندي، وجاء ببعض الحطب وقذف به إلى النار التي كادت تخمد، وعلى ضوئها طفق يتفقد محتويات الغرفة00 ووجدشِباك صيدٍ قديمةٍ وسلال فارغة، وحبال وثياب وخرق بالية، ووجد صندوقاً به سيف صديء،ورماح وسماح، وكان الغبار يغطي كل شيء0 ثم ترك الحجرة بعدما ألقى على قدمي الرجل المرتعش بعض الأغطية0 وجمع المزيد من الحطب والأخشاب، ثم عاد ليجد الرجل قد استيقظ و وجده يكاد يجن فرقاً على حقيبته، وعندما وقعت عيناه على غياث سأله بفظاظة وريبة:
-أين أموالي؟
-هل تقصد الخرج؟
-نعم00 هل رأيت أحداً جاء إلى هنا و أخذها؟
-كيف يأتي أحد ليسرقها ولا أمنعه؟!
-إذاً قل لي أين ذهبت؟
-لقداستوليت عليها أنا0
-أنت؟
-نعم0
وتوقع غياث أن يلعنه الرجل ويغضب ويحاول القيام أو يقذفه بأي شيء00 لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! بل تغيرت سحنته، وتكدرت ملامحه إلى هيئة مهزومة ساذجة00 وحزينة بشكل كاد يبعث الأسى في نفسه!!
لقد أُتي من مأمنه، وسُرق من الشخص الذي كان يظن أنه منقذه0 وعاد يستفسر بطريقة أراد لها أنتكون ثابتة متوعدة:
-بأي حق تأخذ مالاً ليس لك؟!
-وليس لك أنت أيضاً!
كيف تقول هذا 00 إنها أموالي؟!
رد غياث مصطنعاً الثقة:
-لقد عرفتك ساعة نظرت إليك00 لقد أخذت هذه الأموال ظلماً وعدواناً00 وليست هذه أولى أعمالك فأنا أعرف عنك الكثير!
لم يكن غياث متأكداً مما يقول، وكان مستعداً لن يتنازل عن شكوكه لو استمر الرجل في إنكاره غير أن استسلام الرجل السريع أدهشه0 حيث قال الرجل مناوراً:
-أنت لا تعي شيئاً مما تقول00 أنا اسمي شهاب الدين وأنا تاجر من تجار حلب وقد داهمني اللصوص عندما كنت00
-بل أنت لص من لصوص العراق واسمك مروان!
وتقلبت عينا الرجل مبهوتاً00 وحدج غياث بنظراته المرعوبة المدهوشة في صمت و حنى رأسه، وجعل يتحسس جرحه بيده الملطخة بالدماء اليابسة وخاطبه غياث:
-لقد رأيتك أول مرة في سجن الوالي من أجل جبن سرقته وتدعي الآن أنك تاجر وأن لك أمولاً!؟
واستقام الرجل في جلسته لاهثاً بعدما تجلى عنه الكثير من وطأة الحمى،وأسند ظهره إلى الجدار وقال بصوت هادئ مستسلماً:
-إذاً فأنت تعرفني يا فتى؟
فقال غياث معلناً عن نفسه بصراحة:
نعم أعرفك00 فجميعنا أصحاب مهنة واحدة00 وعندما كنت تهذي فهمت من كلامك ما يمكن أن تكون وقد سمعتك تهذي باسم حنظلة وعدي وبكر بن مرة وزليط0
وعند ذكر عدي تمتم00"مروان"وهو يخاطب نفسه:
-عذًبك الله يا عدي00
ثم قال لغياث بسذاجة ناسياً عجزة:
-ستشاركني هذه الغنيمة 00سأهبك نصف المال مقابل أن تساعدني00؟
فابتسم غياث مستغرباً00 كيف أصبح هذا لصاً فاتكاً ثم قال بمكرٍ مستجراً مروان إلى الكلام:
-حسناً00 وكيف أساعدك؟
-تركبني على ظهر الجمل وتدفع بي إلى سبيل النجاة0
-سأفعل00ولا أريد نصف المال،فهذا كسب لك وحدك، و إنني من القناعة بحيث يكفيني القليل إذا أخبرتني كيف سلبتَ المال00 و لك أن أساعدك؟
-ومن يضمن لي أنك لا تخونني؟
-لا خيار لك00فأنت عاجز00 وإذا لم تستجب لي قمت وتركتك!
- والذهب؟
رد غياث محاولاً كسب ثقة مروان:
-الذهب لك إلا ما تصدقت به عليً،فما كنت لآخذ ما حصلت أنت عليه بجهدك00
ورفع إلى فم مروان قدحاً كان قد ملأه من النهر00 فشرب وقال:
-سأحكي لك0
وسكت برهة يتحسس جرحه ثم قال بنكد:
-هذا المال لتاجر ثري، يسكن بغداد وهو من أهل فلسطين يقال له ذاهب المقدسي، وكان متصلاً بالخلفاء والولاة وقد جمع من الأموال الكثير وكانت له ضياع ودور وعقار0
وقد وشى به بعضهم عند الخليفة فجفاه وعنَّفه،وأظهر له العداوة فضاقت عليه الدنيا وكره بغداد وعاف المقام فيها، واعتزم الرحيل إلى بلاده، والتحول إلى موطنه الأصلي فلسطين فأرسل أولاده وأسرته إلى هناك مع قليل من المال على أن يلحق بهم بعد أشهر0
وطفق يبيع ضياعه وعقاره، وكل مايملك واشترى هذا الذهب الذي رأيته، وحمل أمتعته وأمواله على بعض الجمال00 واستأجرخمسة عشر فارساً لحراسته مع خمسة من عبيده0
وكان من أصدقاء المقدسي رجل يحقد عليه ويحسده اسمه حنظلة، وكانت قد جرت بينهما المعرفة في مجلس الخليفة ولم يكن ذاهب يخفي عن حنظلة شيئاً من أموره0 فجمع حنظلة تسعة من الفتاك وانضممت أنا إليهم مع أخ لي، واتفقنا على أن نستولي على الأموال ونهاجم الرجال ليلاً00 ولم نكن على قلب واحدولكن جمعتنا حمرة الذهب0 وكان المقدسي صاحب حيطة وتدبير، فلم يخبر أحداً بمسيره ولا بما تحمله جماله0 ولم يكن يشك في إخلاص حنظلة، لذا علمنا كل شيء وتيسر لنا رصد الرجال ومتابعتهم 0 و اختبأنا لهم ليلة البارحة في بعض الطريق، ثم انقضضنا عليهم متلثمين،كانوا أشد منا قوةً و أكثر عدداً لكن مفاجئتنا لهم ساعدتنا على غلبتهم فقاتلناهم قتالاً شديداً بالنبال والسيوف وقد أخفى زعيمنا حنظلة نفسه،فلما رأى كفة القتال تسير لصالحنا انضم إلينا0وبدا لي أنه لن ينجو من رجال المقدسي أحد،بينما لم يقتلْ منا سوى أربعة ،وفرَّ بقية الفرسان إلى بعض الصخور طلباَّ للنجاة فطاردهم رجالنا لإفنائهم وكان هذا رأي حنظلة حتى لا يعود أحدٌ منهم إلى بغداد فيعلم الناس بنا0 إنه لئيمٌ ويحب الدماء ويقتل بلا دافع للقتل!وقد ساءني من حنظلة أنه لم ينضم إلينا إلا بعد أن هزمنا القوم، وأنه كان يحافظ على نفسه،وقدرت أيضاً أن هذا الذهب لو قُسَّم بيننا فلن ينالني منه ما أصبو إليه ، وكل هذا جعلني أتسلل في غمرة الهياج و البحث عن الجمل الذي فيه الذهب، وأهرب به تاركاً الرجال يتقاتلون مستعيناً بالظلام والغبار00 وسرت قليلاً وظننت أني فزتُ بالمال،لكن أحد أعوان حنظلة واسمه عدي اعترضني وقد عرف مقصدي وبدلاً من أن أخفي فعلتي تصرفت بحماقة فصحت به إن الذهب لي وحدي0 فعلقت به وأصابني في بطني ورأيت أخي يأتي مسرعاً، وقد فهم ما حدث فانضم إليَّ والتحم مع الرجل في مبارزة وأمرني أن أهرب بالجمل00وهربت00 ممسكاً بجرحي ممتطياً ظهر الجمل00 وكنت أعرف موضع القارب فتحاملت على جرحي وعالجت الجمل حتى برك في جوف القارب00 وقطعت به النهر وهذا ما زاد من آلامي ثم أنهضت الجمل وركبت عليه، لكني بدأتُ أفقد رشدي فسقطتُ من على ظهره، وغاب عقلي حتى جئتني أنت0
الفصل الرابع
بعد سماع القصة تأكد لغياث بن عبد المغيث صدق توقعه، وأن الذهب ليس غنيمة باردة00بل هناك فئتان تصطرعان عليه مروان وشقيقه و حنظلة ومن تبقى من رفاقه0
وقرر في نفسه أنه يجب المسارعة بالرحيل فلابد أن القوم سيقتفون أثر مروان ويأتون إلى هنا00فيجب أخذ الخرج والسباحة إلى الضفة الثانية من النهر،ثم ركوب الجمل والهروب00 وفكر في كيفية قطع النهر سباحة والخرج ثقيل وليس هناك قارب غير ذلك القارب المعطوب الذي ربما أستقر في المياه الأن00واهتدى إلى طريقة00و اعتزم تنفيذها00سيفرغ قربة الماء ثم يملأها بالهواء ويربطها إلى خرج الذهب، ويسهل بذلك جذبها معه خلال السباحة0
ودبت فيه الحيوية، وقام لتنفيذ فكرته والمسارعة بالهروب00لكن ذلك أصبح مجرد أمنية، فقد تناهى إلى سمعه صوت فرس راكض0 فخرج ليتحقق من الصوت فرأى فارساً طويلاً بسيف طويل ينهب الأرض باتجاه البيت0فعاد إلى الداخل وهتف بمروان:
-لقد قدم أحدهم0
فصاح مروان برعب:
-لقد عرفوا مخبأي00 إنه الموت!!
وتعاقبت على وجهه الألوان00 وأيقن بالهلاك ولما رأى غياث تغيُّر سحنته طمأنه وقال بنبرة صادقة:
-لن يصلوا إليك وأنا هنا00 فأنا لست جباناً ولا خائناً0
وكل الذي تمناه في هذه اللحظة لو أنه سارع مع مروان بالرحيل ولم يتلكأ00 وأسر في نفسه الندامة00لم يكن من طبيعته الجبن00 لكنه أراد أن يتجنب قتالاً هو في غنى عنه0
وفتح أحد الصناديق وأخذ أجود الحراب الموجودة واختبأ خلف الباب، وسمع الفارس يترجل عن فرسه ويربطها في الجهة الخلفية من النخيل ويتقدم إلى الباب،وتوقع غياث أن يجهز على مروان ساعة دخوله00 لكنه بخلاف ذلك أنكب عليه بلهفة يتحسسه ويقول مبتهجاً:
-مروان!! هل أنت حي؟!
وصاح مروان مدهوشاً:
-سعيد أخي!؟
-كيف جرحك؟
-على شر حال!
-لقد تسرعت فيما فعلت00 ولو أخبرتني بنيتك لأخذتُ أهبتي ولما جرحت0
-لقد طرأت علي الفكرة فجأة، فسارعت إلى تنفيذها!
-هل تألمت من الطعنة كثيراً؟
-لقد تمنيت الموت من شدة ما وجدت!
وبرفق أخذ الفارس يد أخيه ورفعها عن بطنه ، ولم يرَ غياث تعابير وجهه لأنه كان ملقياً إليه بظهره00 لكنه سمعه يقول متكدراً:
-إنه جرح كبير!!
ثم رد يده إلى مكانها وقال يطمئنه:
-ستشفى وتنجو0
-أشك في النجاة00 لقد سال من دمي الشيء الكثير00لكن قل لي كيف تركت الرجال؟
-لقد قُتل ذاهب المقدسي00تعمَّد حنظلة قتله بسيفه00
-إنه لئيم وحقود0
-وقتل جميع رجاله00ومات منا أربعة00 أما أنا فقد قتلت عدي الذي أعترضك،وسلبته فرسه وهربت إليك00لقد علمت أنك ستكون هنا00وتأكدت من ذلك عندما رأيت ضوء النار من نافذة الحجرة0 لكن البقية علموا بما فعلت من الهروب بالأموال،وعلموا أني انضممت إليك00 وهم في أثري الآن ويلزمهم بعض الوقت ليصلوا إلى هنا0 فهيا سأحملك وسأردفك على الفرس00 ولنسارع بالنجاة بما غنمنا00فلا طاقة لنا بهم0
وسكت برهة يلتقط أنفاسه ثم سأل مروان بلهفة:
-أين الذهب والجمل؟
فأجابه مروان يشير بذقنه إلى غياث الذي برز من مخبأه:
-لقد استولى عليه هذا الفتى00!
وقفز سعيد كالملدوغ لدن سماعه بوجود شخص آخر في الغرفة وأستل سيفه وواجه غياث0
كان طويلاً00 نحيلاً00 وكان أصغر من مروان بكثير00 وأكثر وحشية وحذراً00 وهتف في خشونة:
-كيف تسلب أخي ماله00 وهو جريح عاجز؟
وقبل أن يقول غياث شيئاً صاح مروان:
-دعه ياسعيد00 لقد أخبرته بكل شيء00 مقابل أن يرجع الأموال، ويساعدنا ويأخذ بعض الذهب مكافأة له0
فنهره سعيد محنقاً وقال:
-ما زلت على غبائك يا مروان!
ووجه كلامه إلى غياث:
-أين الأموال؟
فرد غياث ببرود:
-هي أموال اغتصبت مرتين00 فما الذي يمنعها أن تؤخذ مرة 00؟
-إذاً فأنت تطلب القتال؟
-كما تشاء0
وهجم سعيد على غياث الذي كاد ينخسه بطرف حربته00 لكن سعيد كان أسرع فأطارها من يده بجنب سيفه، فدهش غياث لهذه المهارة، وقفز إلى ركن الحجرة،والتقط جذعاً قصيراً ومتيناً وواجه به سعيد الذي قال:
-إنك لا تعرف سعيد حتى تواجهه بخشبة؟!
-وأنت لا تعرف غياث حتى تتحداه!؟
وهجم سعيد على غياث وأهوى بسيفه عليه،فتدرع غياث بالغصن فعلق السيف به0
وفيما حاول سعيد انتزاع سيفه00 ركله غياث برجله في خاصرته بشَّدة فسقط يتلوى ألماً0
وأخذ غياث السيف وبرك على صدره كالجمل، لكنه لم يتمكن منه لأن سعيد قبض على معصميه وضغط عليهما بقوة رهيبة حتى اكتستا لوناً أزرق فأسقط غياث السيف رغماً عنه، فحاول سعيد التقاطه وهو يمسك بغياث لكن يد مروان كانت أسرع فأخذ السيف0 وصاح به سعيد:
-دعني أقتله!
فقال مروان:
-إن له عليَّ معروفاً00 فقد أنقذني وعبر بي النهر ولولاه لكنت ميتاً الآن0
وتنازعت خواطر مضطربة فؤاد سعيد، بين ترك غياث لإحسانه أو الإجهاز عليه00لكن نزعة الشر غلبته، فهتف بمروان وهو يرص على أسنانه:
-أعطني السيف فلا مكان هنا إلا للقتال والغلبة00 وهو الذي طلب ذلك؟
فقال مروان:
-إذا قتلته ضاع منا المال إلى الأبد،فقد أخفاه في مكان لا يعرفه إلا هو0
ولما رأى غياث هذا الجدل حول حياته أخذته الأنفة00 فتناهض من تحت خصمه ثم قبض عليه من ثيابه ووقف وقد رفعه عالياً حتى لامس ظهره سقف الحجرة المنخفض وصاح:
-لست في حاجة إلى رحمتك ولا رحمة أخيك!
ثم قذف به إلى الأرض في سقطة عظيمه صرخ منها سعيد00 وهنا وقف مروان على ركبتيه على غير عادته00 وهو يطل من النافذة الصغيرة، وهتف في وجل عظيم:
-كفى عراكاً00 لقد جاءوا00 حنظلة ورفاقه!
الفصل الخامس
التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار00والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!
وقال سعيد
في خشونة:
-نتضافر لقتالهم00ثم نسوي ما بيننا فيما بعد0
فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت0
وقد قبل على الفور هذا الاقتراح،لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم00ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد00 وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة،وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!
واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له0
وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟
فرد غياث بفضاضة :
لا شأن لك0-
وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الاحتماء بالبيت والرجوع،فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا00فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع00أما الخرج الثاني فقد استولى عليه وأخفاه0
وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟
فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك0
فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً00 وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء0
وسكت سعيد على مضض0وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على استخدامها بينما استعد سعيد بالسيف00وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا00وهذه هي الفرس التي هرب بها0
وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد00 فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما0
وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟ فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه0
و صاح الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!اخرج قلت لك!
وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!
وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟
-قَّبحك الله وإياه00 إنه لا يساوي أظفري!
-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!
أصمت!-
-أنت من يصمت00 فأنا لست عبداً لك!
ورد سعيد عليه بلطمة قوية00 كافأه غياث بأشد منها00 وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان:
وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد00إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك00لقد خنت ما اتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!
التوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه0
وسكت حنظلة ليسمع جواباً،فلم يسمع سوى هدير النهر فاستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-اخرج00أعرف أنك هنا00 لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر0
ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع وراءك ياحنظلة00 إنه الموت!
ورغم الأخطار فقد ابتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!
بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!بطن مثقوب ولسان طويل!القتل لمن خان أصحابه0تقدموا و ائتوني بهذا الشقي0
وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب0
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل اللصوصُ جميعاً،فقد انتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم0 وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!
ثم جعل يجره بإبطيه مبتعداً به0وقاس اللصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة00 تدل بوضوح على رامٍ ماهر!مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخيه!!
ورد عليه الآخر:
-صدقت00فمروان جريح00وسعيد لا يجيد غير السيف!
ولم يخْف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام00لقد أفزعتهم!
فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه00 ولكني لا أحب القتل!
فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل00 وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟
-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل0
تراجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم00لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال0ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب0 وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح 00سيرون منَّا مالا يسرهم0
مضت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي استند إلى الجدار ومد رجليه00وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه00 فانتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!
وابتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!
-لا تبدو شريراً يا فتى!؟
-ولِمَ البخل ببعض الماء00 والموت يحيط بك00 والرجال يطلبون دمك؟
-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!
-لا أظن ذلك00فإن العافية قد بدأت تسير فيك00دعني أرى الجرح0
وبرفق رفع يد مروان عن الجرح،وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء00 وأزل الدماء المتيَّبسة حوله00كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف00 وكان محاطاً بالزرقة00وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن00ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت00
فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!
وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟
-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟
-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟
-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة
-حتى ولو كان في ذلك هلاك أخيك؟!
وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه00فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم0وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي انبلاج الصباح ففكر ملياً00ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا00سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب00
-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟
إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها00وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب0
-أخشى أن تفشل خطتك00فيدركونني ويقتلونني00؟
-ذلك خير لك من البقاء هنا00وعليك المحاولة00 فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم0
بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص0
ولما قارب الضياء على الانبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟
-لا أدري00
-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع0
سأحاولُ0
وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الاستعداد لتهريب مروان من البيت0 لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان،فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج00وأرتفعت ألسنة اللهب00وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم اشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا احترقت!
ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لا تشتد عليه آلامه0ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً00 وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد0
التجأ غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما اقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة00 وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الانتقام00وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه00ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملتحماً بآخر الرجال00وتساءل غياث عن حنظلة0
كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب00 وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون،وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض00وبسرعة انتزع غياث ثيابه و ولى هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف انهار وسدَّ الباب0وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!
وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،و انطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي00ويتمنى أن تطول معركة الرجلين00 ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها00وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس!!
الفصل السادس
ثم انطلق و بانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة00 إلى بغداد0
بغداد00عاصمة الخلافة00جامعة أشتات البشر00الفرق شاسع بينها وبين الممرة00هنا يسهل الاكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة00مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو00وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الاستقبال الأول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً00رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الاتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش00واشترى حلة ثمينة00وعمامة ضافية00وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،واستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،واشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة00كان فائق الحيوية والبهجة00سعيداً بالنصر الذي أحرزه00 مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ما لا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة00وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب00وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً00وهل هو الذي اختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقي حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد00ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد00 وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة 00 فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة00 وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر 00 وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما00 أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه00ولأن كسب جانبه سهل00وقليل من المال يكفي لشراء سكوته0
وطال انتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم00 وانتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة00وأمضى أسبوعاً00ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا0 ولكن أين الآخرين؟00 ودب اليأس إلى قلبه00 وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة00 احتساء الخمور0
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة0فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع00يسأل عن البساتين والمزارع00 وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وما هي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل00 أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه0
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به0
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك0
-وهل هو واسع؟
-نعم00هل تحب أن تراه؟
-نعم0
-إذاً تعال إليَّ غداً0
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع00فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن00وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ00لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين0
وقال له سيده:
- اذهب بهذا الرجل وأره شوكة0
ومضى غياث مع الخادم وحاول استدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة00 وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر00توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة00 لا يجاوره شيء00وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية00 وقد سحبت إلى البستان قناة من نهر دجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين00 واعتزم غياث شراءه لانعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه0 ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت واشترى البستان بلا تردد0
وقال للسمسار:
- و أريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم0
-إنه شيخ بطيء00 ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي00 لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين0 ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله00 وأنا أرغب فيه0
وانضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطئ الرأس، متلثماً بطرف عمامته0
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه00 وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه00 وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه00 فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد التقينا مرة ثانية0
ودهش غياث لحالة سعيد00 كانت ذراعه اليسرى مشوهة00 قد أتت النار عليها00 وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها0 وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد00 لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك0
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك0
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم 00 إن أمره يهمني0
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً00 ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا00 إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر00 ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته0
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح0
-إنه صبور كالجمال00 لكنه لا يحسن التصرف0
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك00؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك يا غياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل00!
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعك ولم أرحب بك0
-لا يهمني هذا00 فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا0
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع يا غياث ولو تضافرت جهودنا لاستفدنا كثيراً0
وأدرك غياث ما يرمي إليه سعيد فقال:
-لا تحلم بمثل هذه الأمور00 فقد حصلت على ما يكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة0
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا00
- هذا شيء أمره إليك وحدك00
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك استل غياث سيفه00 فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا00 لو كنت أريد قتلك لاختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك00
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل00 لقد جئت أعرض عليك الصلح0
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً00
-لا شأن لك بهذا 00 قل لماذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت و حنظلة ومروان إن كان حياً00 وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ما حصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر0 وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان00 وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه0
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث00 فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً00 وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ ما يريد ولو كان في ذلك حتفه00 ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد استل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض00
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده واستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير00 كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها0
استمر صراعهما طويلاً
دون أن تميل الغلبة إلى أيٍ منهما00 وتصبب العرق غزيراً من جسديهما00 كان غياث أقوى جسداً من خصمه لكن سعيداً كان أمهر في استعمال السيف0 وتأكد لغياث أن صاحبه عليل ومتعب، فقد ارتخت نظراته وتعددت ضرباته الخاطئة، وحانت منه فرص ومقاتل لكن غياث كان يتجنب قتله0 وازدادت صفرة سعيد،وبدأ يتراجع فيما نشط غي
رواية السجين يهرب
هذه رواية من أفضل الروايات الإسلامية للكاتب خالد الجبرين وهي رائعة أسلوبا و مضمونا نقلتها لكم بعد تنقيحها ، و هي في أربعة عشر فصلا ،
الفصل الأول:
"الممرة" قريةصغيرة ذات بيوت صغيرة متلاصقة وسخة00تقع في قعر العراق في الشمال بعيداً عن بغداد مسيرة يومين للماشي على قدميه0في أحد دروب الممرة الضيقة يسمع وقع أقدام متعثرة00غير منتظمة00الوقت ليلاً00وبسبب من ضوء القمر الشحيح انطرح على الأرض ظلال شخص يمشي مترنحاً00وعندما لفه الدرب إلى باحة مغلقة على جنباتها عدة أبواب مغلقة00 تبينت هيئته واضحة تحت شحوب القمر00شاب في السابعة والعشرين00بثياب بالية00وطاقية فقدت لونها الأصلي00متوسط القامة 00متين العضلات00حزين الملامح،بعينين نصف مغمضتين00كان سكراناً إلى درجة متوسطة00ثقيل الخطى00يغطي زوايا فمه المليح زبد من اللعاب0وقف الشاب أمام أحد الأبواب المغلقة وطرقه00كان البيت يدل على مستوى ساكينه00بيت صغيرلصياد فقير00بعد فترة فتح الباب وأطلًت منه وجه امرأة مُسنًة،تمسك خمارها على وجهها،فلما عرفت في الشاب ولدها الوحيد تركت خمارها يسقط عن وجهها وهتفت في حزن وألم:
- أنت سكران يا ولدي؟!
أجابها الشاب بصبر نافذ:
- أريد أن أنام00وقبل أن يدفع الباب للدخول أغلقته بسرعة فصاح الشاب:
- أفتحي ياأماه00أنا لا أقوى على الوقوف!
ومن وراء الباب أجابته:
- سيرتك السيئة يا ولدي سترديك00 وسيطردك أبوك من البيت0
- افتحي الباب،ولن يعلم أبي إنه نائم0
- لن أدعك تدخل حتى أخبره0
- لا تخبريه بشيء00إن علم بحالي فسيطردني إلى الأبد00 لقد هددني بذلك0
- لقد أقسم عليً بأن أوقظه حال وصولك0
- الويل لي!
كان يتكلم بلسان ثقيل00 وزال عنه شيء من غبش السكر عندما سمع وقع أقدام والده يتجه نحو الباب0 وتوقع حدوث أسوأ الأشياء0 فظل واقفاً مستسلماً لما سيحدث00إنه يخشى هذا الكهل فقد هدده مراراً0وفتح الباب لتخرج منه عصا غليظة، وتهوي على رأسه فيسقط مرعوبا متألماَ00وجلس على الأرض يتحسس رأسه00ورفع عينيه فصدم بمرأى والده الذي خلت ملامحه من أي بشائر التسامح00كانت لحيته البيضاء المستطيلة ترتجف بارتجاف فكه الأسفل وفي عينيه نظرات الغضب والحسرة ونهره الشيخ بغلظة:
- لماذا جئت؟أجاب وهو يتحسس الكرة الصغيرة التي نبتت في رأسه:
- أريد أن أنام0
- ليس عندي مكان لك بعد اليوم!
فسأل الشاب في لهفة:
- وأين أذهب؟!
- إلى أي أرض تعجبك0
- اعف عني يا أبتاه وأعدك أني00
- اصمت00 لقد سئمت وعودك الكاذبة00عليك الآن أن تتدبر شئونك0وقال الشاب بخجل:
- دعني أنام هذه الليلة فقط!
وقالت أم الشاب التي كانت تقف خلف زوجها:
- دعه ينام هذه الليلة يا عبدالمغيث ويرحل في الصباح؟
- رد الكهل بحزم:
- لن يتعدى هذه العتبة00اعطني صرة ثيابه0وبعين دامعة ناولته المرأة صرة كانت في يدها فأخذها وقذف بها في وجه ولده الوحيد وهتف محنقاً:
- هذه ثيابك يا غياث لست ولدي ولست والداً لك00!
وتناول الشاب الصرة وقام من على الأرض،وهم بأن يلقي بنفسه على والده ويقبل قدميه رجاء عفوه،لكن ما فعله الشيخ قطع عليه آماله، فقد قبض ثوبه من جهة صدره وهزًه بعنف وكأنه طفل وصاح في وجهه:
- اسمع00 إذا رأيتك في هذا المكان مرة أخرى00سأهشم رأسك00 ثم طرحه على الأرض ودخل مغلقاً الباب وراءه0لفترة جمد الشاب في مكانه ثم تحرك بتراخ00لم يدر إلى أين سيذهب، فهام على وجهه مدة حتى صار في ظاهر القرية00 ثم وجد نفسه يسير جنوباً بمحاذاة نهر دجلة متجهاً إلى بغداد00 كان يلزمه مسيرة يومين ليصل إلى عاصمة الخلافة00 لكنه مشى متباطئاً بغير حرص على الوصول00كان يجر رجليه جراً!
الفصل الثاني
العذاب00 الضيق000الأماني العراض التي افترسها الفشل00كل ذلك انحرف بمسيرته00وأهلك القناعة بداخله،وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية00بطالة طاغية00فقرٌ مقدع00أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ00حطمته الأيام،ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال،فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة00لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ،لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً00 أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء،ثم عمل حمَّالاً00ثم مزارعاً00ثم حرفياً0لكنه ولد بنفس طموحه00إلى المجد و الجاه00 إلى الصيت الذائع،وتراكم في نفسه اعتقاد راسخ بأن مشكلته و سعادته في المال00 فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل مامعه من نقود00 جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة00ثم عمد إلى موهبته الأصلية00الشعر00 استعار جبة وعمامة عريضة00 ودخل على الولاة وكبار القادة،ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسرمن جديد00 وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة و أقداح النبيذ0ومع الأيام القاسية انحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ000فصار لصاً00 يسطو على المنازل00 وشُكي إلى والده،فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه0وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد،وكادت يده أن تقطع ذات مرة! وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً0بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم استلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق0نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقظته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين،وغمس وجهه في مياه دجلة،وأروى عطشه ، ثم استلقى من جديد تحت ظل شجرة،وعاود النوم حتى انحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل،ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام و واصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير0وصل إلى إحدى القرى الواقعة على النهر، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئاً،فمنظره الكئيب، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها0ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض0وصادف أحد الصيادين راكباَحماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا00تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل أن ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه00وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى0عندما حل المساء توقف على الشاطئ00 كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان00 وأشعل نارا و شوى بعض ما في السلة من السمك00 وجلس يأكل بشهية مفتوحةحتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا0كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه آثر أن يكمل مسيرته في الصباح0لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته00 الأولى وهو صبي في صحبة والده00 والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة0 كم هالته المدينة الكبيرة العامرة00 التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء00في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الآمنة،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور00 وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى اجتذب سمعه أنين خافت!! تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه00لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث00 كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب00 أرخى سمعه مرة ثالثة ليجدالصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه0 فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس0كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد00 فثيابه ممزقة00 ورأسه حاسر مشعث الشعر 00 وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى استفاق0وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر0
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً0ولم يعلق الرجل بغير الأنين0 فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى00 كأنك00ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يا رجل 00أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن0وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بماتريد00 لكن أرفعني قليلاً عن الأرض0واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الجرح إلى جهة من البر:
-هناك00 ستجد الجمل هناك00 لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره0وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله00 تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله00 لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض00 يجتر ما أكله في النهار00 هدر الجمل عندما رآه، فاقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الإعياء فنام0قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فارتفع اللهب متراقصاً00مضيئاً المكان00 تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر00كان دقيق الملامح00مهزولاً00 على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور00 وعندما تذكره هزًّ رأسه!
و بهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها و وضعها في جيبه00 و راعه أن جسد الرجل كان يفوربالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم00 وقد وجدت جملك0
-إذاً انظر هناك00 ستجد قارباً كبيراً00 انزل به أحمال الجمل00ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور00هيا بسرعة0
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا00لابد أن نكون هناك حالاً0
-تبدو مستعجلاً00 هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد00هيا بسرعة00بسهولة وجد غياث القارب 00 ووجده قديماً متهالكاً00 فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين0وعمد إلى أحمال الجمل00 فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل00 وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط0حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه00 وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية00 وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية0ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام0 فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب! كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم00 وإلا لما تركتك تبحر به00 ربماحطمه الجمل! لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بانفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده0ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين0فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف00 أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه و أنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله00 وماذا أصنع بك؟ كل ما أستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسحل التجديف0وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر0 وتناول احد الخرجين بسرعة وقذف به إلى الماء 0 ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا 000إنه الذهب !!؟كانت صيحته منكرة00 جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايت هو ،خاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به يا أحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب00 لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو00 في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهرالداكنة المخيفة0 ثم حانت منه التفاتة إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً00 كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه0ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله00وهاأنذا أخسر نصفه00 عذبك الله يا عدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت00وكان النخيل قليلاً00متقارباً و خاوياً00 وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل 0وضع غياث الرجل على الأرض0 لكنه صاح:
-بالداخل00 بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً00لكن الحمى كانت تفترس الرجل00فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهويئن00 ويهتف لاهثاً:
-نار 00أوقد ناراً00 الجليد يكاد يقتلني00 أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي00 وأشخاص أخرين00حنظلة00بكرة بنمرة00 زليط0وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضاءت أركان الحجرة0 ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه00 ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص...!
الفصل الثالث ..
الذهب بغيته00شرط سعادته00ابتسمت له الدنيا فجأة00ارتمت الثروة والمجد تحت قدميه بسهولة00هذا المال غنيمة باردة سيناله بلا مخاطرات ولامتاعب00فالسرقة مهنته00 والرجل الجريح عاجز لايكاد يقوى على الحراك، وليس هناك رقيب ولا شرط00فليأخذ هذا الخرج الممتلئ وليرجع لاستخراج الثاني بعد حين00 ليقتنص الفرصة ولينهي شقائه إلى الأبد00 وسيجد بعدها مئة جواب لمن يسأله عن ثرائه المفاجئ!وأحس بتصاعد أنفاسه وتلفت00ثم تفكر ملياً وأعادالمال إلى مكانه00 ووجد نفسه متردداً في سلب الرجل، مع أنه سلبه قبل قليل بعض الدريهمات!
حرك النار فتصاعد لهبها00 تأمل هذه الثروة التي تربض عند قدميه كالكلب الوفي00 ماذا لو أخذها ولاذ بالفرار وترك الرجل لمصيره يموت بهدوء00 لقمة سائغة00فهو يسطو على المنازل ويقتحم الأخطار من أجل أشياء قليلة تضيع منه في صباح اليوم الذي يليه00 والآن وجد ما يكفيه مدى عمره كله،فلماذا يترك هذه السعادة القابعة في حقيبة هذا الجريح العاجز تضيع منه؟00إنه في الغالب سيموت، فقد تلقى في جوفه طعنةنافذة00 وهكذا لن يثقل كاهله بقتله00 فلا مجال للتقاعس والوجل؟!
وتناول الخرجا لثقيل مرة ثانية00 لكن شكوكه عادت فأرجع الخرج إلى مكانه0
لقد علمته التجارب أن يكون حذراً ويفكر في كل شيء قبل أن يقدم على عمل جريء كهذا0 وقد تحصلت عنده قناعة تامة أن لهذا الذهب الوافر طلاباً غيره،وأنهم لابد أن يتتبعوه أينما ذهب00 فما زالت تطن في أذنه كلمات الرجل وهو يهذي ويقول: إنه طعن من أجل الذهب ثم خسر نصفه0 وتلك الأسماء التي كان يرددها00حنظلة00زليط00عدي00 ولاشك أن الرجل لص مثله00 فقد رآه يوماً أو شخصاً يشبهه! والأشخاص الذين ذكرهم هم أعوانه أو أعداؤه0 ولهذا قرر أن يحتال على الرجل ليعرف قصته، ويكون ذلك أدعى للأمن وأخذ الحيطة0 وخطرت له فكرة00
أخذ الخرج محاذراً أن تحدث محتوياته صوتاً وحفر حفرةً صغيرةً في جهة من الحجرة، ودفن الخرج فيها و غطاه بطبقة رقيقة من التراب،ووضع صرة ثيابه فوقها وسوى الموضع ، ثم قام إلى الخارج ورفع رأسه وملأ رئتيه من الهواء الندي، وجاء ببعض الحطب وقذف به إلى النار التي كادت تخمد، وعلى ضوئها طفق يتفقد محتويات الغرفة00 ووجدشِباك صيدٍ قديمةٍ وسلال فارغة، وحبال وثياب وخرق بالية، ووجد صندوقاً به سيف صديء،ورماح وسماح، وكان الغبار يغطي كل شيء0 ثم ترك الحجرة بعدما ألقى على قدمي الرجل المرتعش بعض الأغطية0 وجمع المزيد من الحطب والأخشاب، ثم عاد ليجد الرجل قد استيقظ و وجده يكاد يجن فرقاً على حقيبته، وعندما وقعت عيناه على غياث سأله بفظاظة وريبة:
-أين أموالي؟
-هل تقصد الخرج؟
-نعم00 هل رأيت أحداً جاء إلى هنا و أخذها؟
-كيف يأتي أحد ليسرقها ولا أمنعه؟!
-إذاً قل لي أين ذهبت؟
-لقداستوليت عليها أنا0
-أنت؟
-نعم0
وتوقع غياث أن يلعنه الرجل ويغضب ويحاول القيام أو يقذفه بأي شيء00 لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! بل تغيرت سحنته، وتكدرت ملامحه إلى هيئة مهزومة ساذجة00 وحزينة بشكل كاد يبعث الأسى في نفسه!!
لقد أُتي من مأمنه، وسُرق من الشخص الذي كان يظن أنه منقذه0 وعاد يستفسر بطريقة أراد لها أنتكون ثابتة متوعدة:
-بأي حق تأخذ مالاً ليس لك؟!
-وليس لك أنت أيضاً!
كيف تقول هذا 00 إنها أموالي؟!
رد غياث مصطنعاً الثقة:
-لقد عرفتك ساعة نظرت إليك00 لقد أخذت هذه الأموال ظلماً وعدواناً00 وليست هذه أولى أعمالك فأنا أعرف عنك الكثير!
لم يكن غياث متأكداً مما يقول، وكان مستعداً لن يتنازل عن شكوكه لو استمر الرجل في إنكاره غير أن استسلام الرجل السريع أدهشه0 حيث قال الرجل مناوراً:
-أنت لا تعي شيئاً مما تقول00 أنا اسمي شهاب الدين وأنا تاجر من تجار حلب وقد داهمني اللصوص عندما كنت00
-بل أنت لص من لصوص العراق واسمك مروان!
وتقلبت عينا الرجل مبهوتاً00 وحدج غياث بنظراته المرعوبة المدهوشة في صمت و حنى رأسه، وجعل يتحسس جرحه بيده الملطخة بالدماء اليابسة وخاطبه غياث:
-لقد رأيتك أول مرة في سجن الوالي من أجل جبن سرقته وتدعي الآن أنك تاجر وأن لك أمولاً!؟
واستقام الرجل في جلسته لاهثاً بعدما تجلى عنه الكثير من وطأة الحمى،وأسند ظهره إلى الجدار وقال بصوت هادئ مستسلماً:
-إذاً فأنت تعرفني يا فتى؟
فقال غياث معلناً عن نفسه بصراحة:
نعم أعرفك00 فجميعنا أصحاب مهنة واحدة00 وعندما كنت تهذي فهمت من كلامك ما يمكن أن تكون وقد سمعتك تهذي باسم حنظلة وعدي وبكر بن مرة وزليط0
وعند ذكر عدي تمتم00"مروان"وهو يخاطب نفسه:
-عذًبك الله يا عدي00
ثم قال لغياث بسذاجة ناسياً عجزة:
-ستشاركني هذه الغنيمة 00سأهبك نصف المال مقابل أن تساعدني00؟
فابتسم غياث مستغرباً00 كيف أصبح هذا لصاً فاتكاً ثم قال بمكرٍ مستجراً مروان إلى الكلام:
-حسناً00 وكيف أساعدك؟
-تركبني على ظهر الجمل وتدفع بي إلى سبيل النجاة0
-سأفعل00ولا أريد نصف المال،فهذا كسب لك وحدك، و إنني من القناعة بحيث يكفيني القليل إذا أخبرتني كيف سلبتَ المال00 و لك أن أساعدك؟
-ومن يضمن لي أنك لا تخونني؟
-لا خيار لك00فأنت عاجز00 وإذا لم تستجب لي قمت وتركتك!
- والذهب؟
رد غياث محاولاً كسب ثقة مروان:
-الذهب لك إلا ما تصدقت به عليً،فما كنت لآخذ ما حصلت أنت عليه بجهدك00
ورفع إلى فم مروان قدحاً كان قد ملأه من النهر00 فشرب وقال:
-سأحكي لك0
وسكت برهة يتحسس جرحه ثم قال بنكد:
-هذا المال لتاجر ثري، يسكن بغداد وهو من أهل فلسطين يقال له ذاهب المقدسي، وكان متصلاً بالخلفاء والولاة وقد جمع من الأموال الكثير وكانت له ضياع ودور وعقار0
وقد وشى به بعضهم عند الخليفة فجفاه وعنَّفه،وأظهر له العداوة فضاقت عليه الدنيا وكره بغداد وعاف المقام فيها، واعتزم الرحيل إلى بلاده، والتحول إلى موطنه الأصلي فلسطين فأرسل أولاده وأسرته إلى هناك مع قليل من المال على أن يلحق بهم بعد أشهر0
وطفق يبيع ضياعه وعقاره، وكل مايملك واشترى هذا الذهب الذي رأيته، وحمل أمتعته وأمواله على بعض الجمال00 واستأجرخمسة عشر فارساً لحراسته مع خمسة من عبيده0
وكان من أصدقاء المقدسي رجل يحقد عليه ويحسده اسمه حنظلة، وكانت قد جرت بينهما المعرفة في مجلس الخليفة ولم يكن ذاهب يخفي عن حنظلة شيئاً من أموره0 فجمع حنظلة تسعة من الفتاك وانضممت أنا إليهم مع أخ لي، واتفقنا على أن نستولي على الأموال ونهاجم الرجال ليلاً00 ولم نكن على قلب واحدولكن جمعتنا حمرة الذهب0 وكان المقدسي صاحب حيطة وتدبير، فلم يخبر أحداً بمسيره ولا بما تحمله جماله0 ولم يكن يشك في إخلاص حنظلة، لذا علمنا كل شيء وتيسر لنا رصد الرجال ومتابعتهم 0 و اختبأنا لهم ليلة البارحة في بعض الطريق، ثم انقضضنا عليهم متلثمين،كانوا أشد منا قوةً و أكثر عدداً لكن مفاجئتنا لهم ساعدتنا على غلبتهم فقاتلناهم قتالاً شديداً بالنبال والسيوف وقد أخفى زعيمنا حنظلة نفسه،فلما رأى كفة القتال تسير لصالحنا انضم إلينا0وبدا لي أنه لن ينجو من رجال المقدسي أحد،بينما لم يقتلْ منا سوى أربعة ،وفرَّ بقية الفرسان إلى بعض الصخور طلباَّ للنجاة فطاردهم رجالنا لإفنائهم وكان هذا رأي حنظلة حتى لا يعود أحدٌ منهم إلى بغداد فيعلم الناس بنا0 إنه لئيمٌ ويحب الدماء ويقتل بلا دافع للقتل!وقد ساءني من حنظلة أنه لم ينضم إلينا إلا بعد أن هزمنا القوم، وأنه كان يحافظ على نفسه،وقدرت أيضاً أن هذا الذهب لو قُسَّم بيننا فلن ينالني منه ما أصبو إليه ، وكل هذا جعلني أتسلل في غمرة الهياج و البحث عن الجمل الذي فيه الذهب، وأهرب به تاركاً الرجال يتقاتلون مستعيناً بالظلام والغبار00 وسرت قليلاً وظننت أني فزتُ بالمال،لكن أحد أعوان حنظلة واسمه عدي اعترضني وقد عرف مقصدي وبدلاً من أن أخفي فعلتي تصرفت بحماقة فصحت به إن الذهب لي وحدي0 فعلقت به وأصابني في بطني ورأيت أخي يأتي مسرعاً، وقد فهم ما حدث فانضم إليَّ والتحم مع الرجل في مبارزة وأمرني أن أهرب بالجمل00وهربت00 ممسكاً بجرحي ممتطياً ظهر الجمل00 وكنت أعرف موضع القارب فتحاملت على جرحي وعالجت الجمل حتى برك في جوف القارب00 وقطعت به النهر وهذا ما زاد من آلامي ثم أنهضت الجمل وركبت عليه، لكني بدأتُ أفقد رشدي فسقطتُ من على ظهره، وغاب عقلي حتى جئتني أنت0
الفصل الرابع
بعد سماع القصة تأكد لغياث بن عبد المغيث صدق توقعه، وأن الذهب ليس غنيمة باردة00بل هناك فئتان تصطرعان عليه مروان وشقيقه و حنظلة ومن تبقى من رفاقه0
وقرر في نفسه أنه يجب المسارعة بالرحيل فلابد أن القوم سيقتفون أثر مروان ويأتون إلى هنا00فيجب أخذ الخرج والسباحة إلى الضفة الثانية من النهر،ثم ركوب الجمل والهروب00 وفكر في كيفية قطع النهر سباحة والخرج ثقيل وليس هناك قارب غير ذلك القارب المعطوب الذي ربما أستقر في المياه الأن00واهتدى إلى طريقة00و اعتزم تنفيذها00سيفرغ قربة الماء ثم يملأها بالهواء ويربطها إلى خرج الذهب، ويسهل بذلك جذبها معه خلال السباحة0
ودبت فيه الحيوية، وقام لتنفيذ فكرته والمسارعة بالهروب00لكن ذلك أصبح مجرد أمنية، فقد تناهى إلى سمعه صوت فرس راكض0 فخرج ليتحقق من الصوت فرأى فارساً طويلاً بسيف طويل ينهب الأرض باتجاه البيت0فعاد إلى الداخل وهتف بمروان:
-لقد قدم أحدهم0
فصاح مروان برعب:
-لقد عرفوا مخبأي00 إنه الموت!!
وتعاقبت على وجهه الألوان00 وأيقن بالهلاك ولما رأى غياث تغيُّر سحنته طمأنه وقال بنبرة صادقة:
-لن يصلوا إليك وأنا هنا00 فأنا لست جباناً ولا خائناً0
وكل الذي تمناه في هذه اللحظة لو أنه سارع مع مروان بالرحيل ولم يتلكأ00 وأسر في نفسه الندامة00لم يكن من طبيعته الجبن00 لكنه أراد أن يتجنب قتالاً هو في غنى عنه0
وفتح أحد الصناديق وأخذ أجود الحراب الموجودة واختبأ خلف الباب، وسمع الفارس يترجل عن فرسه ويربطها في الجهة الخلفية من النخيل ويتقدم إلى الباب،وتوقع غياث أن يجهز على مروان ساعة دخوله00 لكنه بخلاف ذلك أنكب عليه بلهفة يتحسسه ويقول مبتهجاً:
-مروان!! هل أنت حي؟!
وصاح مروان مدهوشاً:
-سعيد أخي!؟
-كيف جرحك؟
-على شر حال!
-لقد تسرعت فيما فعلت00 ولو أخبرتني بنيتك لأخذتُ أهبتي ولما جرحت0
-لقد طرأت علي الفكرة فجأة، فسارعت إلى تنفيذها!
-هل تألمت من الطعنة كثيراً؟
-لقد تمنيت الموت من شدة ما وجدت!
وبرفق أخذ الفارس يد أخيه ورفعها عن بطنه ، ولم يرَ غياث تعابير وجهه لأنه كان ملقياً إليه بظهره00 لكنه سمعه يقول متكدراً:
-إنه جرح كبير!!
ثم رد يده إلى مكانها وقال يطمئنه:
-ستشفى وتنجو0
-أشك في النجاة00 لقد سال من دمي الشيء الكثير00لكن قل لي كيف تركت الرجال؟
-لقد قُتل ذاهب المقدسي00تعمَّد حنظلة قتله بسيفه00
-إنه لئيم وحقود0
-وقتل جميع رجاله00ومات منا أربعة00 أما أنا فقد قتلت عدي الذي أعترضك،وسلبته فرسه وهربت إليك00لقد علمت أنك ستكون هنا00وتأكدت من ذلك عندما رأيت ضوء النار من نافذة الحجرة0 لكن البقية علموا بما فعلت من الهروب بالأموال،وعلموا أني انضممت إليك00 وهم في أثري الآن ويلزمهم بعض الوقت ليصلوا إلى هنا0 فهيا سأحملك وسأردفك على الفرس00 ولنسارع بالنجاة بما غنمنا00فلا طاقة لنا بهم0
وسكت برهة يلتقط أنفاسه ثم سأل مروان بلهفة:
-أين الذهب والجمل؟
فأجابه مروان يشير بذقنه إلى غياث الذي برز من مخبأه:
-لقد استولى عليه هذا الفتى00!
وقفز سعيد كالملدوغ لدن سماعه بوجود شخص آخر في الغرفة وأستل سيفه وواجه غياث0
كان طويلاً00 نحيلاً00 وكان أصغر من مروان بكثير00 وأكثر وحشية وحذراً00 وهتف في خشونة:
-كيف تسلب أخي ماله00 وهو جريح عاجز؟
وقبل أن يقول غياث شيئاً صاح مروان:
-دعه ياسعيد00 لقد أخبرته بكل شيء00 مقابل أن يرجع الأموال، ويساعدنا ويأخذ بعض الذهب مكافأة له0
فنهره سعيد محنقاً وقال:
-ما زلت على غبائك يا مروان!
ووجه كلامه إلى غياث:
-أين الأموال؟
فرد غياث ببرود:
-هي أموال اغتصبت مرتين00 فما الذي يمنعها أن تؤخذ مرة 00؟
-إذاً فأنت تطلب القتال؟
-كما تشاء0
وهجم سعيد على غياث الذي كاد ينخسه بطرف حربته00 لكن سعيد كان أسرع فأطارها من يده بجنب سيفه، فدهش غياث لهذه المهارة، وقفز إلى ركن الحجرة،والتقط جذعاً قصيراً ومتيناً وواجه به سعيد الذي قال:
-إنك لا تعرف سعيد حتى تواجهه بخشبة؟!
-وأنت لا تعرف غياث حتى تتحداه!؟
وهجم سعيد على غياث وأهوى بسيفه عليه،فتدرع غياث بالغصن فعلق السيف به0
وفيما حاول سعيد انتزاع سيفه00 ركله غياث برجله في خاصرته بشَّدة فسقط يتلوى ألماً0
وأخذ غياث السيف وبرك على صدره كالجمل، لكنه لم يتمكن منه لأن سعيد قبض على معصميه وضغط عليهما بقوة رهيبة حتى اكتستا لوناً أزرق فأسقط غياث السيف رغماً عنه، فحاول سعيد التقاطه وهو يمسك بغياث لكن يد مروان كانت أسرع فأخذ السيف0 وصاح به سعيد:
-دعني أقتله!
فقال مروان:
-إن له عليَّ معروفاً00 فقد أنقذني وعبر بي النهر ولولاه لكنت ميتاً الآن0
وتنازعت خواطر مضطربة فؤاد سعيد، بين ترك غياث لإحسانه أو الإجهاز عليه00لكن نزعة الشر غلبته، فهتف بمروان وهو يرص على أسنانه:
-أعطني السيف فلا مكان هنا إلا للقتال والغلبة00 وهو الذي طلب ذلك؟
فقال مروان:
-إذا قتلته ضاع منا المال إلى الأبد،فقد أخفاه في مكان لا يعرفه إلا هو0
ولما رأى غياث هذا الجدل حول حياته أخذته الأنفة00 فتناهض من تحت خصمه ثم قبض عليه من ثيابه ووقف وقد رفعه عالياً حتى لامس ظهره سقف الحجرة المنخفض وصاح:
-لست في حاجة إلى رحمتك ولا رحمة أخيك!
ثم قذف به إلى الأرض في سقطة عظيمه صرخ منها سعيد00 وهنا وقف مروان على ركبتيه على غير عادته00 وهو يطل من النافذة الصغيرة، وهتف في وجل عظيم:
-كفى عراكاً00 لقد جاءوا00 حنظلة ورفاقه!
الفصل الخامس
التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار00والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!
وقال سعيد
في خشونة:
-نتضافر لقتالهم00ثم نسوي ما بيننا فيما بعد0
فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت0
وقد قبل على الفور هذا الاقتراح،لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم00ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد00 وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة،وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!
واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له0
وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟
فرد غياث بفضاضة :
لا شأن لك0-
وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الاحتماء بالبيت والرجوع،فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا00فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع00أما الخرج الثاني فقد استولى عليه وأخفاه0
وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟
فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك0
فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً00 وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء0
وسكت سعيد على مضض0وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على استخدامها بينما استعد سعيد بالسيف00وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا00وهذه هي الفرس التي هرب بها0
وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد00 فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما0
وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟ فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه0
و صاح الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!اخرج قلت لك!
وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!
وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟
-قَّبحك الله وإياه00 إنه لا يساوي أظفري!
-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!
أصمت!-
-أنت من يصمت00 فأنا لست عبداً لك!
ورد سعيد عليه بلطمة قوية00 كافأه غياث بأشد منها00 وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان:
وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد00إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك00لقد خنت ما اتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!
التوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه0
وسكت حنظلة ليسمع جواباً،فلم يسمع سوى هدير النهر فاستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-اخرج00أعرف أنك هنا00 لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر0
ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع وراءك ياحنظلة00 إنه الموت!
ورغم الأخطار فقد ابتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!
بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!بطن مثقوب ولسان طويل!القتل لمن خان أصحابه0تقدموا و ائتوني بهذا الشقي0
وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب0
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل اللصوصُ جميعاً،فقد انتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم0 وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!
ثم جعل يجره بإبطيه مبتعداً به0وقاس اللصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة00 تدل بوضوح على رامٍ ماهر!مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخيه!!
ورد عليه الآخر:
-صدقت00فمروان جريح00وسعيد لا يجيد غير السيف!
ولم يخْف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام00لقد أفزعتهم!
فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه00 ولكني لا أحب القتل!
فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل00 وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟
-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل0
تراجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم00لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال0ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب0 وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح 00سيرون منَّا مالا يسرهم0
مضت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي استند إلى الجدار ومد رجليه00وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه00 فانتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!
وابتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!
-لا تبدو شريراً يا فتى!؟
-ولِمَ البخل ببعض الماء00 والموت يحيط بك00 والرجال يطلبون دمك؟
-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!
-لا أظن ذلك00فإن العافية قد بدأت تسير فيك00دعني أرى الجرح0
وبرفق رفع يد مروان عن الجرح،وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء00 وأزل الدماء المتيَّبسة حوله00كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف00 وكان محاطاً بالزرقة00وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن00ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت00
فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!
وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟
-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟
-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟
-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة
-حتى ولو كان في ذلك هلاك أخيك؟!
وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه00فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم0وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي انبلاج الصباح ففكر ملياً00ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا00سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب00
-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟
إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها00وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب0
-أخشى أن تفشل خطتك00فيدركونني ويقتلونني00؟
-ذلك خير لك من البقاء هنا00وعليك المحاولة00 فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم0
بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص0
ولما قارب الضياء على الانبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟
-لا أدري00
-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع0
سأحاولُ0
وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الاستعداد لتهريب مروان من البيت0 لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان،فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج00وأرتفعت ألسنة اللهب00وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم اشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا احترقت!
ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لا تشتد عليه آلامه0ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً00 وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد0
التجأ غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما اقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة00 وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الانتقام00وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه00ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملتحماً بآخر الرجال00وتساءل غياث عن حنظلة0
كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب00 وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون،وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض00وبسرعة انتزع غياث ثيابه و ولى هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف انهار وسدَّ الباب0وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!
وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،و انطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي00ويتمنى أن تطول معركة الرجلين00 ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها00وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس!!
الفصل السادس
ثم انطلق و بانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة00 إلى بغداد0
بغداد00عاصمة الخلافة00جامعة أشتات البشر00الفرق شاسع بينها وبين الممرة00هنا يسهل الاكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة00مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو00وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الاستقبال الأول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً00رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الاتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش00واشترى حلة ثمينة00وعمامة ضافية00وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،واستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،واشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة00كان فائق الحيوية والبهجة00سعيداً بالنصر الذي أحرزه00 مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ما لا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة00وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب00وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً00وهل هو الذي اختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقي حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد00ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد00 وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة 00 فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة00 وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر 00 وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما00 أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه00ولأن كسب جانبه سهل00وقليل من المال يكفي لشراء سكوته0
وطال انتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم00 وانتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة00وأمضى أسبوعاً00ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا0 ولكن أين الآخرين؟00 ودب اليأس إلى قلبه00 وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة00 احتساء الخمور0
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة0فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع00يسأل عن البساتين والمزارع00 وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وما هي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل00 أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه0
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به0
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك0
-وهل هو واسع؟
-نعم00هل تحب أن تراه؟
-نعم0
-إذاً تعال إليَّ غداً0
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع00فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن00وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ00لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين0
وقال له سيده:
- اذهب بهذا الرجل وأره شوكة0
ومضى غياث مع الخادم وحاول استدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة00 وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر00توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة00 لا يجاوره شيء00وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية00 وقد سحبت إلى البستان قناة من نهر دجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين00 واعتزم غياث شراءه لانعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه0 ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت واشترى البستان بلا تردد0
وقال للسمسار:
- و أريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم0
-إنه شيخ بطيء00 ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي00 لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين0 ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله00 وأنا أرغب فيه0
وانضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطئ الرأس، متلثماً بطرف عمامته0
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه00 وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه00 وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه00 فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد التقينا مرة ثانية0
ودهش غياث لحالة سعيد00 كانت ذراعه اليسرى مشوهة00 قد أتت النار عليها00 وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها0 وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد00 لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك0
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك0
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم 00 إن أمره يهمني0
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً00 ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا00 إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر00 ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته0
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح0
-إنه صبور كالجمال00 لكنه لا يحسن التصرف0
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك00؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك يا غياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل00!
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعك ولم أرحب بك0
-لا يهمني هذا00 فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا0
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع يا غياث ولو تضافرت جهودنا لاستفدنا كثيراً0
وأدرك غياث ما يرمي إليه سعيد فقال:
-لا تحلم بمثل هذه الأمور00 فقد حصلت على ما يكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة0
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا00
- هذا شيء أمره إليك وحدك00
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك استل غياث سيفه00 فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا00 لو كنت أريد قتلك لاختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك00
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل00 لقد جئت أعرض عليك الصلح0
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً00
-لا شأن لك بهذا 00 قل لماذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت و حنظلة ومروان إن كان حياً00 وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ما حصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر0 وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان00 وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه0
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث00 فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً00 وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ ما يريد ولو كان في ذلك حتفه00 ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد استل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض00
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده واستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير00 كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها0
استمر صراعهما طويلاً
دون أن تميل الغلبة إلى أيٍ منهما00 وتصبب العرق غزيراً من جسديهما00 كان غياث أقوى جسداً من خصمه لكن سعيداً كان أمهر في استعمال السيف0 وتأكد لغياث أن صاحبه عليل ومتعب، فقد ارتخت نظراته وتعددت ضرباته الخاطئة، وحانت منه فرص ومقاتل لكن غياث كان يتجنب قتله0 وازدادت صفرة سعيد،وبدأ يتراجع فيما نشط غي
الأحد سبتمبر 08, 2013 10:43 pm من طرف الحسيني
» تحميل فلم اسمي خان افضل فلم في 2010
الجمعة يناير 18, 2013 3:06 pm من طرف bebba39
» حلقات المحقق كونان الجزء الاول . مدبلجة بالعربية ........................
الأحد يوليو 08, 2012 7:22 am من طرف رمزي السلامي
» للاشتراك بفريق المدمر سوفت نت ............................................................................................................................................................................................................................ز2010
الثلاثاء فبراير 21, 2012 8:04 pm من طرف الامبراطور ناشد
» حوار مع دمعة
الثلاثاء ديسمبر 13, 2011 8:37 pm من طرف alosama
» معنى كلمه تعريب
الثلاثاء ديسمبر 13, 2011 8:11 pm من طرف alosama
» حفظها رب العالمين
الجمعة سبتمبر 02, 2011 9:39 pm من طرف الامبراطور ناشد
» يريد أن يجدّد العلاقة مع ربه
الجمعة سبتمبر 02, 2011 9:24 pm من طرف الامبراطور ناشد
» توبة شاب على يد رجل من أهل الحسبة
الجمعة سبتمبر 02, 2011 9:10 pm من طرف الامبراطور ناشد